الشبكة المدنية/ الشرق الأوسط
توقف الرواتب أدى إلى تدهور «الصحة» في مناطق سيطرة الحوثيين
لم تستطع عائلة المعلم اليمني سمير إخفاء قصة محاولاته المتكررة الانتحار، فبعد أن ظنّت أنه تجاوز أزمته النفسية بعد المحاولة الأولى منذ 4 أعوام، فوجئت به منذ عام وقد ابتلع علبة كاملة من الحبوب المهدئة، وتمكّنت من إسعافه وإنقاذه قبل أن يبدأ مفعولها في جسده، لكنه هذه المرة حاول إلقاء نفسه من سطح بناية.
تنبه سكان إحدى العمارات العالية غرب العاصمة صنعاء لسمير، وهو اسم مستعار، عندما حاول فتح الباب المؤدي إلى السطح، ولولا معرفة أحد سكان العمارة به، لظنه بقية السكان لصاً، واتضح أنه يحاول أن يلقي بنفسه إلى الشارع، وهنا لم يعد بمقدور عائلته كتمان الأمر، حيث استغلت ما حدث لطلب تعاون أهالي الحي عند ملاحظة قيامه بتصرفات مريبة.
سمير، هو أحد المعلمين الذين تسببت الظروف المعيشية الصعبة، خصوصاً انقطاع رواتبهم منذ 7 سنوات، في إصابتهم باضطرابات نفسية، ودفعت عديداً منهم إلى الانتحار وإزهاق أرواحهم، أو التشرد في الشوارع، أو لجوء عائلاتهم لاحتجازهم مع سعيها لمداواتهم، وهو أمر لم يعد متيسراً؛ نظراً لأن الظروف التي أوصلتهم إلى هذه الحال، هي نفسها التي تمنع إمكانية علاجهم المكلف.
تضطر والدة سمير وزوجته وابنته الوحيدة إلى مراقبته بشكل شبه دائم؛ خوفاً من أن يقدم على الانتحار مجدداً بعد 4 محاولات، وفي سبيل ذلك يمنعنه من الوصول إلى الأدوية والأدوات الحادة والحبال والأسلاك، ويطلبن من أهالي الحي مراقبته خارج المنزل، في حين يضطر شقيقه إلى الاستئذان من عمله في أحد المحال التجارية لملاحقته في الشوارع.
منذ قرابة شهر، أعلن صندوق الأمم المتحدة للسكان، أن نحو 7 ملايين يمني بحاجة للرعاية الصحية النفسية خلال العام الحالي، مع شح توافر الرعاية الصحية النفسية في اليمن، حيث يوجد طبيب نفسي واحد فقط لكل 700 ألف شخص، وهي نسبة أقل بكثير من المعيار العالمي الذي يتطلب نحو 40 طبيباً نفسياً لكل 100 ألف شخص.
انتحار المعلمين
وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن 120 ألفاً فقط من بين 7 ملايين يمني يستطيعون الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية النفسية، وهو عدد ضئيل لا يتناسب مطلقاً مع حجم الاحتياجات المتعاظمة والمتزايدة.
وأكد الصندوق أن «اليمن لا يزال بعيداً كل البعد عن المعيار العالمي للرعاية الصحية النفسية»، مشيراً إلى تخصيصه جزءاً من التمويل الذي حصل عليه من الوكالة الأميركية للتنمية، المقدر بـ23 مليون دولار، لتوفير خدمات الدعم النفسي الاجتماعي في 14 مستشفى و4 عيادات متنقلة، إضافة إلى دعم 20 مساحة آمنة للنساء والفتيات لتقديم الرعاية النفسية.
تزامن إعلان الصندوق مع واقعة انتحار كان ضحيتها أحد موظفي المؤسسة العامة للكهرباء في محافظة عمران (51 كيلومتراً شمال العاصمة صنعاء)؛ بسبب تعرضه للفصل من وظيفته وحرمانه من المبالغ الضئيلة التي كان يتقاضاها بمسمى «الحافز»، وجاءت عملية فصله بمعية العشرات من زملائه من قبل قيادي حوثي يسيطر على فرع مؤسسة الكهرباء في المحافظة.
أما محافظة إب، فهي أكثر المحافظات اليمنية التي شهدت انتحار المعلمين، حيث انتحر فيها أكثر من 5 معلمين في عام 2019 فقط، وهو أكثر الأعوام التي شهدت انتحار معلمين بسبب انقطاع رواتبهم.
ورغم عدم وجود إحصائية من جهة معروفة حول حوادث الانتحار، فإن الانتحار لا يقتصر على المعلمين أو الموظفين العموميين. وتعد إب أكثر المحافظات التي يقترن اسمها مع حالات الانتحار بشكل عام، إذ شهد عام 2022 أكثر من 50 واقعة انتحار أو محاولة انتحار في عموم المحافظات الواقعة تحت سيطرة الانقلابيين الحوثيين، غير أن التقديرات تشير إلى وقوع حالة انتحار كل يومين.
وشهد عام 2019 أشهر حوادث الانتحار بسبب انقطاع الرواتب، حين أقدم معلم شاب على إلقاء نفسه من أعلى مبنى برج الأدوية وسط العاصمة صنعاء، بعد أن تقدم مالك المنزل الذي يسكنه بشكوى ضده لعدم سداد الإيجار لأشهر عدة، إلى جانب تراكم الديون عليه.
تنوع بحسب البيئة
يتضح من بيانات المنظمات الدولية العاملة في اليمن حول الأمراض النفسية التي انتشرت في الأعوام الأخيرة، أن الحالات النفسية التي تظهر بين السكان في المحافظات البعيدة من المعارك، تتمثل في القلق، والاكتئاب، والحزن الشديد، والنزوع نحو العزلة، والهروب من المجتمع، وقد تصل إلى الاضطرابات السلوكية.
غير أن المناطق التي شهدت معارك عسكرية وممارسات عنف من طرف الميليشيات الحوثية تشهد حالات نفسية أكثر تعقيداً؛ تتمثل في اضطرابات ما بعد الصدمة، التي تتطور إلى حالات الاكتئاب الحاد، والذهان، والاضطراب ثنائي القطب، والخوف من المستقبل، والخوف الدائم أو الخوف المرضي، والإحباط والقلق الدائمين.
ووفقاً لبيانات منظمة «أطباء بلا حدود»، يصاب الأطفال بالاكتئاب الحاد، والهلع، والهستيريا، والتأتأة، والتبول اللاإرادي، والنشاط الزائد، والكوابيس، واضطراب النوم، والخوف المستمر من مصائرهم، في حين يتضاعف الاكتئاب في مخيمات النزوح إلى جانب أعراض ما بعد الصدمة، والوسواس القهري، والانسحابية، والشعور بالاضطهاد، واضطرابات النوم، والقلق، والتوتر.
ويتوقع خالد جلال، وهو اسم مستعار لمسؤول في القطاع الصحي في صنعاء، الذي يسيطر عليه الانقلابيون الحوثيون، أن ما يظهر من حجم مأساة تدهور الصحة النفسية لليمنيين أقل بكثير من الحجم الحقيقي لها، وبما أنه لا توجد إحصائيات أو بيانات رقمية أو استراتيجيات لمواجهة تأثير الحرب والظروف المعيشية التي أنتجتها، إلى جانب غياب المجتمع المدني والإعلام؛ فإن ما لا يظهر من المأساة أكبر بكثير مما يظهر.
ويتابع جلال في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بالقول إن هذه المأساة ستتفاقم وتنفجر مستقبلاً، إما بعد انتهاء الحرب وبدء تطبيع الحياة العامة، حين سيكتشف اليمنيون أن ثلثهم على الأقل يعاني من الاضطرابات النفسية الناجمة عن الانقلاب والحرب وانقطاع الرواتب والبطالة وظروف الحياة الصعبة، أو باستمرار الحرب التي ستتأثر أيضاً بمشاركة المضطربين نفسياً في معاركها.
وحذر من أن غياب الاستراتيجيات الصحية لمواجهة تداعيات الحرب على الصحة النفسية لليمنيين يعد مخاطرة بمستقبل البلد والمجتمع، وإهمالاً ينبغي أن يتوقف فوراً، فالأطفال الذين يكبرون في المخيمات أو في خطوط التماس، ويعيشون ظروفاً معيشية قاسية، من المرجح أن يكون أغلبهم من المضطربين نفسياً، ما يسهّل على الميليشيات والتنظيمات الإرهابية استقطابهم وتجنيدهم.
ومع تفاقم حالة سمير مع آلاف آخرين من المرضى النفسيين في اليمن، أبدى المسؤول الصحي استغرابه من عدم وضوح إجراءات تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية في اليمن التي أعلنتها منظمة الصحة العالمية قبل 10 أشهر، أو إعلان ما تحقق من هذه الاستراتيجية حتى الآن، ومدى استجابة وتعاون الحكومة الشرعية وسلطات الانقلاب الحوثي معها.